manzalawy blog
اشكر كل من ساهم معنا وتابعنا خلال فترة التدوين على صفحات مدونة منزلاوى فقد ادت دورها على اكمل وجه فى ظروف كانت ملائمة للمدونات فقط احب ان اقول انى احببت التدوين واحببت تلك المدونة ... manzalawy
الثلاثاء، فبراير ٠٥، ٢٠٠٨
حقيقة العلمانية كما أرادها الغرب
العلمانية كما يفهمها الجميع ويعمل من أجلها العلمانيون هي فصل الدين عن السياسة، وأنه لا سياسةَ في الدين ولا دينَ في السياسة، والذي حاول العلمانيون إيهام الأمة الإسلامية بها؛ حتى يتحقَّق لهم من ورائها السيطرة على مقومات الشعوب الإسلامية، وتسخيرها لخدمة الغرب وأهدافه.
غير أن مفهوم العلمانية في الحقيقة مختلف عمَّا يعلمه الجميع، وأن الفكرةَ بالرغم من أن الغرب هم الذين وضعوها وطبقوها على الأمة الإسلامية بحذافيرها إلا أنهم لم يطبقوها على أنفسهم كما نفهمها نحن، وهذه إشكالية وقع فيها المسلمون، ويتخذها الحكام ذريعةً لضرب كل من يطالب بحكم إسلامي.
تطور مفهوم العلمانية
د. محمود مسعود
وحول مفهوم العلمانية الواضح، كتب الدكتور محمود مسعود- مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة المنيا، والحاصل على الدكتوراه من جامعة ليون بفرنسا عام 2004م- يقول: "تعود فكرة هذا الكتاب إلى المناقشات التي كانت تدور في الإعلام الفرنسي حول مسألة الحجاب والعلمانية، وكنت وقتئذٍ أعد رسالتي للدكتوراه في فرنسا حول موضوع "الفكر السياسي الديني بين أرنست رينان والإمام محمد عبده"، وما كان يؤلمني أحيانًا أن الكثيرين كانوا يتحدثون عن العلمانية كأنها دين مكتمل الأركان، وفي مواجهة غيرها من الأديان والعقائد منذ بدايتها، في حين أن تلك النهاية لم تصل إليها العلمانية إلا في مواجهة الإسلام وعلى أرضه، ولم يكن لها هذا المعنى في الغرب إلا مع الوجود المتنامي للجالية الإسلامية هناك؛ لهذا كان تصميمي أن أكشف للعلمانيين وللمهتمين بهذا الشأن من المثقفين المسلمين والعرب أن العلمانية الغربية خرجت من رحم الدين ومن أفكار الإصلاحيين الدينيين، ولم توجِّه حربًا للدين المسيحي بالمفهوم الغربي، إنما لبعض الأفكار التي أدخلها رجال ذو مناصب دينية أو حتى أناس من العوام أدمجوا كثيرًا من الفلكلور الشعبي ذي الصبغة الحاكمة في الحياة بصفته دينًا؛ ومن هنا يمكن فهم العلمانية على أنها متمِّمة للدين المسيحي بصيغته الغربية.
فالكثير من مفكرينا- وخاصةً المتمكنين في الجانب الديني والمدركين للفوارق الدقيقة ما بين القرآن والإنجيل- يميلون إلى القول بأن العلمانية كانت ضد المسيحية، وهي ربما تكون محقَّة في نقمتها على الدين المسيحي لأنه وقف ضد العقل وحارب العلم خاصةً في عهد حكم الباباوات في أوروبا (1)، وهم معذورون في رأينا لسببين:
الأول: هو أنهم كانوا يفكرون من خلال النصوص، ومهملين- ربما عن قصدٍ- للدور البشري في تفسير النصوص الدينية أو حتى تركيبها أو إعادة بنائها بناءً اجتماعيًّا مألوفًا مرحليًّا- أعني فاعلية البعد الاجتماعي- صحيحٌ أن ذلك كان قليلاً في البيئة الإسلامية؛ وذلك لظروف خاصة بالدين الإسلامي ليس هذا مجالَ كشفها الآن، لكنها موجودةٌ على أي حال؛ فنظرةٌ إلى الأحاديث التي وردت عن الفِرَق الإسلامية سنجد أن أكثرها موضوع، والمشكلة ليس في أن هذه الأحاديث موضوعة فحسب (2)؛ فهذا ربما يكون هيِّنًا في ذاته، إنما زاد الطين بلة- كما تقول العرب- أنه تم تفسير بعض آيات القرآن أو بعض الأحاديث الصحيحة ليخدم ويساير هذا المعنى الموضوع.
أما السبب الثاني: وهو أكثر أهميةً في رأينا، هو أن العلمانيين الذي احتكوا بمشايخنا ومفكرينا في العالم العربي لم تكن لهم- في الغالب الأعم- صلة بالدين، خاصةً أن بعض المسيحيين الشرقيين وجدوا فرصةً للتخلص من دينهم الذي لم يعد في رأيهم نافعًا لهم، لا روحانيًّا ولا ماديًّا دون أن يصبحوا مسلمين، خاصةً أن الإسلام في رأيهم لا يقل خرافةً عن المسيحية- كما صنع فرح أنطون- فلا أحد ينكر أن الدين عندما تخفو جذوته الروحانية في قلوب أتباعه يصبح عصبيةً، بمعنى ليس دينًا إلهيًّا إنما قبليًّا؛ وبذلك يتحقق لهؤلاء ضرب عصفورين بحجر واحد: تخلصهم من المسيحية من جانب ومن الإسلام من جانب آخر بجر إخوانهم المسلمين بعيدًا عن إسلامهم.
وهم- أي العلمانيون العرب- على كل حالٍ قد آمنوا بالعلمانية بعد الثورة الفرنسية، فلم يكن لهم صلة حقيقية بالعلمانية الأولى، ومن ثَمَّ بشَّروا بعلمانية المستعمر الذي أراد أن ينشرها وسط المجتمع المسلم؛ مما حدا بمفكرينا أن يظنوا أن هؤلاء ينقلون العلمانية بتمامها، وأنها كانت في تاريخها كذلك في الغرب، أي حرب على الدين على دوام المسير.
فنحن نحاول أن نفتش عن جذر العلمانية الديني والسياسي والعقلي (العلمي والفلسفي) في الغرب في آنٍ واحد؛ لأن الكثيرين إما اهتموا بالمنجز العقلي للعلمانية كما رأوه في صورته الأخيرة، ومن ثم كان كل تطور في الفكر الديني والسياسي والعلمي تابع لهذا المنجز، أو أن الصراع بين الجانب السياسي والديني كان أصلاً ومن ثَمَّ تبعه المنجز العقلي.
إن الدين المسيحي- باتفاق الغربيين والشرقيين- متمِّم للدين اليهودي، ونصوص الإنجيل التي بين يدَي الجميع واضحةٌ في هذا الشأن، لكن المسيحيين الغربيين لم يقبلوا هذا المعنى (التكميلي)؛ لأن نصوص الدين اليهودي تحمل تشريعًا وفكرًا، ومن هنا قَبِل الغربيون الشقَّ الجديدَ من الدين، وهو المسيحية الرهبانية، وربطوها بالقانون الروماني، وتنازل المسيحيون عن التشريع للرومان واكتفوا بالعبادة، وعلى رأسها الرهبنة.
لكن نصوص بولس ورسائله تقول إن الوحي لم ينقطع؛ لأن بولس التقى بعيسى العائد بعد الصلب ليرسل بولس رسولاً للمسيحيين المؤمنين، فأصبح كتاب الإنجيل مفتوحًا يُزاد فيه بعد موت المسيح؛ لأنه ظهر حيًّا وأنه لن يموت، بل يقوم مقام الله في السماء الدنيا، ومن ثَمَّ فكل من يرسله يزيد في الإنجيل؛ ومن هنا كانت أعمال بولس ورسائله أكبر مرتين على الأقل من أعمال باقي الحواريين (ومن الحواريين من التقى بعيسى قبل حادثة الصلب ومنهم من لم يلتقه)، لكن ليس كل مَن رأى المسيح بعد قيامته (على رواية النصارى) قد ألَّف كتابًا أو رسالةً، خاصةً أن بولس منع غيره أن يكتب رسائل؛ لأن عيسى خصَّه بذلك، فما كان ممن ادَّعى لقاء المسيح إلا أن يعد ذلك كرامةً له خاصةً وليس مجالها كتاب الوحي (أي الأناجيل).
فلمَّا كثر عدد المؤمنين المسيحيين في الدولة الرومانية طلبهم الحكام ليكونوا جنودًا في الجيش الروماني، ولما رفض المسيحيون؛ ذلك لأنهم أناس روحانيون ضد القتل والظلم الذي هو صفة للحكام (هكذا يدعي الرهبان)، لكن أحد أهم الشرَّاح لنصوص الأناجيل، وهو "سانت أوغسطين" فسَّر الأناجيل تفسيرًا يوائم تلك المرحلة؛ بأن قال: إن من هو ليس براهب هو "لايك laic"، أي "زماني"، يعنى علماني؛ فكل علماني هو مؤمن مسيحي، لكنه ليس براهب.
فالعلمانية من هنا تعني بمنتهى الدقة "مسيحي مؤمن ليس براهب"، لكن هذا العلماني المؤمن سوف يخطئ؛ لأنه لا يحق له قتل الناس ولا ظلمهم، فما كان من الشارح الكبير عندهم إلا أن قال إذا أخطأ هذا المؤمن الجندي المخلص في حماية دين المسيح فكل ما عليه هو أن يذهب لأحد الرهبان المؤمنين يتوب عنده، وهذا الراهب لكونه قريبًا من المسيح يدعو المسيح لهذا العاصي بالغفران فتُقبل توبته ويعود إلى الخدمة مع الظالمين، حتى إن أخطأ مرةً ثانيةً عاد وتاب عند الراهب، وهكذا دواليك!!.
لكن الجنود تمنُّوا أن يصبح الراهب هو الحاكم؛ حتى لا يُظلَم أحدٌ، فعمدوا يومًا بعد يوم لترتفع سلطة الراهب حتى صار الراهب كاهنًا أعظم للإمبراطورية أو مرشدًا لها، ثم تولَّى الجانب السياسي بنفسه أحيانًا. فلما أصبحت للبابا- وهو الراهب الأعظم، وهو رسول عيسى- سلطة سمَّيت بالدينية، وغدت كل أوامره الدنيوية دينًا، ثم بعدما أصبح هو رسولاً- ولا يجوز أن يكذَّب الرسول- وبالاً على الدين المسيحي، فلم يكن بدٌّ من معركةٍ بين حاجات الناس المتغيرة والمتشعبة وبين رجل من البشر مهما بلغت قدراته فهي محدودة (3)، وكاد الناس يثورون ضدهم لكونهم رجال دنيا وليسوا رجال دين، فظهرت للباباوات فكرةٌ تُبعد الناس عن التفكير في خلطهم، وهي أن يحرِّروا الكنيسة من أيدي المسلمين في بيت المقدس، وأن عيسى سيأتي إلى الأرض، وبشَّروا بذلك، فلما لم يجدوا أموالاً تحت أيديهم قالوا إن عيسى سيأتي قريبًا؛ ولهذا من يريد شراء ذنوبه يجب أن يدفع مالاً مقابل صك غفران يحصل عليه المذنب يقدِّمه لعيسى حين يأتي، وبذلك جمعوا الأموال لتحرير القدس، ولما لم يفلحوا ضموا فكرة صك الغفران للدين ولنصوص المجامع الدينية فأصبحت عقيدةً دينيةً عند الكاثوليك.
فمن هنا ثار رجال دين مسيحيون ضد صكوك الغفران، وعلى رأسهم مارتن لوثر، ونجح هذا الرجل في أن يعرِّف المسيحيين بأن المسيحية الرهبانية ينقصها الدين التشريعي، وهو ما كان في التوراة، فضم (الإنجيل إلى التوراة)؛ وبذلك فتح طريق المسيحية كدين متكامل (روح وفكر وقانون) تنافس الغرب الثيوقراطي (روماني القانون، يوناني الفكر، وهو في ذات الوقت مادي)؛ لهذا لم يكن في حاجةٍ من المسيحية إلا للرهبانية ليخلص من ماديته الشديدة أو يخفِّف منها.
أما أن تكون المسيحية دينًا كاملاً فهذا ما لم يقبله الغرب، لكن لوثر هذا وغيره استطاعوا أن يفسِّروا الدين الجديد- وهو البروتستانتية، وهو عبارة عن المسيحية الغربية بالإضافة إلى التوراة اليهودية- بما يوائم الفلسفة اليونانية، ويتقارب مع القانون الروماني؛ مما فتح شهية الغرب ليكشف الفوارق بين الدين المسيحي والدين اليهودي، ومن ثَمَّ انتهوا إلى أن يقرِّوا ويعترفوا باليهودية عام 1801م، لكنهم أخذوا يبحثوا عن مخرج من هذا القانون اليهودي، فقالوا: إن القانون اليهودي تراث نُسخ بالمسيحية، ومن يرد أن يظل عليه فلا مانع شريطة أن تكون المرجعية السياسية للقانون الروماني والمرجعية الفكرية للفلسفة اليونانية، ومن هنا نشأت العلمانية التي تحترم الدين المسيحي الرهباني ولا تحاربه، وتقيِّد الدين اليهودي ولا تعاديه، فلمَّا استعمروا الشرق الإسلامي حاولوا أن يحترموا الإسلام ظاهرًا؛ أملاً في احتوائه كالبوذية؛ لكونه دينًا بشريًّا خالصًا- كما تصوروا أو صوَّر لهم قساوستهم- فلما صعب ذلك قرَّروا أن يعيدوا قانون 1801 بشكل جديد يخدم مصلحتهم؛ ولهذا قالوا بفصل الدين عن الأمور السياسة في الجزائر بعدما احتلتها فرنسا بصفةٍ خاصةٍ، والمستعمرات الغربية بصفة عامةٍ.
ومن ثَمَّ لم نرَ أي دليل داخل أوروبا أو الغرب يفصل بين الدين والدولة، كل ما هنالك أنه لم يصبح للكنائس حق مالي على الدولة؛ فلا يحقُّ للدولة أن تنفق عليها، وهذا ما فعله المسلمون طيلة تاريخهم؛ فالمساجد تُبنى من الوقف والتبرعات وليس من خزينة الدولة.. فهل يعد ذلك (فصل الدين عن الدولة) أي علمانية؟!.
لكن لمَّا ظهر في فرنسا وبعض الدول الأوروبية جالية مسلمة وأخذت تكبر يومًا بعد يوم، عاد الغربيون يعرِّفون العلمانية من جديد- وهي ليست مسألةَ إنفاق الدولة على رجال الدين وكنائسهم كما كانت في السابق- إنما تحريم الرموز؛ لأن الرمز سيكشف كِبَر الجالية؛ مما يتطلب حقوقًا سياسية قد تصل للمشاركة في الحكم، وهو مربط الفرس والخطر العظيم، وهذا ما خشاه الغرب وأخذ يبثُّ معنى العلمانية الجديد بأنه فصل الدين عن الدولة.
ومن هنا ندَّعي أن العلمانية هي الدين المسيحي الغربي نفسه وليست شيئًا آخر، صحيحٌ أن هناك متطرفين علمانيين، لكنهم ليسوا في الحقيقة علمانيين، إنما هم ملحدون تستروا في رداء العلمانية، خاصةً أن اللوبي الصهيوني وراء فكرهم وإعلامهم.
ولذا فالعلمانية بمعنى فصل السياسة عن الدين أو محاربة الدين لم توجد إلا عند المسلمين، ولم يوجِّهها الغرب إلا ضد المسلمين.
ولقد شاع عند عامة الناس في شرقنا الإسلامي أن العلمانية لا تعني إلا محاربة الدين، وهو ما يضايق بعض الأحيان العلمانيين العرب الذين يريدون أن يعرِّفوا العلمانية بالعلم، وكأن الدين ضد العلم، وهذا ما لا معنى له في القرآن، بل ولا حتى في التوراة والإنجيل؛ كل ما هنالك أن أناسًا ممن تزعَّموا الساحة الدينية المسيحية يومًا ما قد حاربوا العلم باسم الدين، وكان هؤلاء ليسوا رجال دين، بل لم يكونوا على علم حتى بنصوص الدين نفسه، والعلمانيون لا يوافقوا أن الدين والعلم وجهان لعملة واحدة؛ لأنهم مصرِّون على تثبيت دعوى أن هؤلاء الجهلة هم رجال الدين، وما كانوا يقولون به هو الدين، كأنهم يريدون تثبيت العمى ويرمون بيه كل التراث، ثم يقولون: "هذا دينكم فاتبعوه شريطةَ بُعدكم عن العلم والتجربة العلمية"!!.
مفهوم العلمانية الواسع
فكلمة "العَلْمَانية" مشتقة من العَلم بمعني العالم، وهي ترجمة لكلمة "سيكولاريزم Secularism" الإنجليزية، وهي مشتقة من كلمة لاتينية "سيكولوم Saeculum"، وتعني العصر أو الجيل أو القرن أي الزمان، لكن شاع لها معنى العالم أو الدنيا في مقابل عالم الغيب الذي هو من اختصاص الوحي؛ لهذا توضع في مقابل الكنيسة لكونها مطَّلعةً بحكم صلتها بالباباوات الذين ادَّعوا أنهم رسل المسيح، وإن كان يوجد هناك مصطلح لاتيني آخر للإشارة لكلمة العالم، وهو موندوس "mundus"، وهذا اللفظ مرادف للكلمة اليونانية "كوزموس cosmos" التي تعني الكون مقابل "chaos" بمعنى الفوضى، ومن هنا فإن كلمة سيكولوم "Saeculum" تعني البُعد الزماني، أما موندوس فتعني البعد المكاني (4)، وكانت تطلق في التراث المسيحي على المسيحيين الذين لا يعيشون في الأديرة؛ فلو تتبعنا مصادر التاريخ المسيحي فيما يُسمَّى بسورس كريتين "sources chrétiennes" لوجدنا هذا المعنى يتكرر آلاف المرات.
ومن هنا يمكن أن نفهم أن المسيحي إما أن يكون راهبًا مسيحيًّا مؤمنًا أو علمانيًّا مسيحيًّا مؤمنًّا؛ بمعنى أن العلماني هو مسيحي مؤمن كالراهب، لكن الفرق بينهما أن هذا (الراهب) لا علاقةَ له بالدنيا وما فيها على عكس العلماني؛ فهو يعمل كل العبادات المسيحية لكنه لا ينعزل كليًّا عن العالم كالراهب.
لكن كلمة علماني إنما وضعت يوم وضعت في مقابل كلمة راهب، وكلاهما مؤمنان بالمسيحية، وربما هذا هو السر الجوهري الذي جعل المسيحيين لا يبغضون العلمانية بهذا المفهوم، بل ربما كان العلماني المسيحي أفضل من الراهب؛ لكونه ينفِّذ أوامر المسيح الذي كان يقول: "إن جباة الضرائب سبقوا الرهبان في الدخول لملكوت الله"- أي طاعته- حينما كان يفرق بين الدين بالطاعة والدين بالعمل، وأنه لا فائدةَ في طاعةٍ بلا عمل. ا. هـ.
وقد أوضح الدكتور أن العلمانية بمفهومها في الغرب لا تعني فصل الدين عن الشئون السياسية كما يتشدَّق بها العلمانيون في البلاد الإسلامية، لكنها عدم دعم الدولة للمؤسسات الدينية، وأن الراهب منقطعٌ للأمور الدينية، غير أن باقيَ الناس مؤمنون لكنهم يعملون ويخطئون ويذنبون، لكنهم يشاركون في الحياة السياسية، وخير دليل ما يحدث في بلاد الغرب من أن القائمين على الشئون السياسية لا يسيرون إلا وفي جيوبهم الإنجيل؛ يستمدون منه تعاليمهم، وفي لبنان نرى هذا المثال واضحًا؛ حيث يتدخل البطريرك في اختيار رئيس البلاد وباقي الشئون السياسية، وأيضًا يوجد دولة غربية دينية عليا يديرها البابا ويقوم على كل شئونها السياسية، ويتدخَّل في الأمور السياسية الخارجية ولم ينكر عليه أحد أنه يتدخل في السياسة وهو رجل دين، لكنه فهم معنى العلمانية التي أرادها الغرب لهم، لكنهم صدَّروا لنا المعنى السيئ بعد أن عجزوا عن تفريغ محتوى ومضمون الدين الإسلامي، فخافوا من قوته والعظمة التي تحيط به، فبثُّوا معنى فصل الأمور الدينية وقصرها على المساجد وترك الشئون السياسية لرجالها ليستخدموا نظرية ميكافيلي، ويكونوا يدًا طيَّعةً في أيدي الغرب؛ لينفذوا مخططاته ضد العالم الإسلامي، ومن تفريغ الإسلام من معانيه التي تُعرقل مخططه الاستعماري للجهاد في سبيل الله ومعاجلة شئون الدولة بمفاهيم الإسلام الصحيحة.
-------------
1- وقع في هذا اللبس الإمام محمد عبده وتلامذته، ومنهم شيخا عصرنا بلا منازع الشيخ الغزالي والقرضاوي، وحتى أستاذنا المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، والذي نحى هذا المنحى أحيانًا، بل وأساتذتنا في دار العلوم والأزهر، ومنهم د. حسن الشافعي، ود. محمود سلامة، ود. محمود شلتوت ود. محمد البهي، ومن سار على دربهم، وهم كثير.
2- لم نقصد الموافقة على الأحاديث الموضوعة، إنما قصدنا أن خطورة الموضوع أهون من خطورة تفسير الصحيح بالموضوع، أو حتى تفسير القرآن بالموضوع، فيختلط صحيح الإسلام بما وضعه الناس من كلام ومعاني جوفاء أو خرقاء.
3- لهذا كان الإسلام أقرب للعقل من غيره عندما جعل النص الموحى به من الله هو المفكِّر به وفيه، وجعل الحاكمية العليا لفهم هذا النص للعقل البشري بشروطه، من استلهام تاريخه والوعي بلغة النص وعصره، ومتطلبات الحياة، ولم يجعل النص حجَّةً في ذاته رغم أنه كذلك، بل دعا إلى التفكر والتعقل فيه ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24) إلى غير ذلك.4- دكتور عبد الوهاب المسيري- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة- ص 53
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
رسالة أحدث
رسالة أقدم
الصفحة الرئيسية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق